البتراء
كانت البتراء عاصمة لدولة الأنباط وأهم مدن مملكتهم العربية التي دامت ما بين 400 ق.م وحتى 106 م، وقد امتدت حدودها من ساحل عسقلان في فلسطين غربًا وحتى صحراء بلاد الشام شرقًا، ومن الشمال دمشق وحتى البحر الأحمر جنوبًا. في عام 300 قبل الميلاد، كان الأنباط قد حققوا السيطرة التامة على المنطقة، وبنوا لأنفسهم مستعمرة حضرية، حيث قاموا بنحت أحيائهم السكنية ومبانيهم وقبورهم في الصخور بجانب الجبال. وفي أوج ازدهارهم في القرن الأول قبل الميلاد كان يعيش في مدينة البتراء مايقارب 30,000 نسمة، كان يحكمهم ملك منذ العام 168 قبل الميلاد وأنشأوا دولة تمثل ديمقراطية، حيث كان الملك عرضة للمحاسبة عن كل أفعاله.
شكل موقع البتراء المتوسط بين حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والجزيرة العربية ومصر أهمية أقتصادية، فقد أمسكت دولة الأنباط بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق وسكانها وكانت القوافل التجارية تصل إليها محملة بالتوابل والبهارات من جنوب الجزيرة العربية والحرير من غزة ودمشق والحناء من عسقلانوالزجاجيات من صور وصيدا واللؤلؤ من الخليج العربي.[19]
لقد أنتج الأنباط أواني فخارية جميلة، ومباني عظيمة تأثر معظمها فيما بعد بالأسلوب الروماني. في بداية القرن الأول الميلادي، أصبحت مدينة البتراء مركز التجارة مجدداً بسبب الحروب الدائمة بين مصر وسورية. وخلال وقت قصير، أصبح الأنباط أثرياء وأقوياء بما في الكفاية ليبسطوا سيطرتهم على المنطقة. ولكونهم زادوا ثراءً تحسن أسلوب حياتهم، وهو ما انعكس بدوره على الديكورات الفخمة الموجودة على قبور الأنباط الجدد.كان الأنباط في البتراء يتكلمون لغة تشبه الآرامية. وقد أصبحت البتراء عاصمة ثقافية موازية ومساوية للمدن الفينيقية واليونانية، حيث يُعتقد أن الخط العربي الأبجدي قد نشأ وتطور في هذه المنطقة، على يد الأنباط العرب. كما كُتب به الحرف العبري في مرحلة ما. وقد انتشر الحرف النبطي بعد أن تبناه الإسلام، وكُتبت به لغات أمم أخرى في بلاد عدة لا يقل مجموعها عن خمسة عشر.
استطاع العرب الأنباط في البدايات، مقاومة محاولات السيطرة عليهم وإخضاعهم، وأبقوا منطقة دائرة الأردن التاريخية خالية نسبيا من النفوذ الأجنبي. ومن بين أهم مواجهاتهم العسكرية، وقوفهم في وجه النفوذ السلوقي (اليوناني) في عام 312 ق.م. إذ استطاعوا رد الجيش اليوناني مهزومًا بعد أن قتلوا معظم أفراده في الحملة الأولى، وردوا الحملة اليونانية الثانية بعد أن حاصر الإغريق مدينتهم لمدة طويلة. كذلك انتصر الأنباط في أول معركة بحرية يخوضها جيش عربي، وذلك في مياه البحر الميت، وهي المعركة التي أنهت أحلام اليونان وأطماعهم بالاستيلاء على شرق الأردن. كما واجه العرب الأنباط اليهود في مواجهات واسعة سجلوا في معظمها الانتصار رغم الحماية الرومانية التي كانوا يتمتعون فيها.
تعتبر أهمية البتراء للأردن كأهمية الأهرامات لمصر، وهي من الآثار التي ما زالت تشهد على براعة الإنسان المذهلة في الهندسة. وتعرف البتراء بالمدينة الوردية ، وهي منطقة جذب سياحي رائعة،بل إنها تعد الموقع الأكثر زيارة من بين المواقع السياحية في الأردن. ومن الصعب وصف جمال وروعة مدينة البتراء النبطية التي لابد للزائر من أن يمتع ناظريه برؤيتها.
يعود تاريخ البتراء إلى عصور ما قبل التاريخ. فقد كانت البتراء في الماضي جزءا حيوياً من الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط بين بلاد الرافدين ومصر. وعندما إزدهرت تجارة الأنباط، قاموا ببناء مدينة من الصخر، ذات واجهات مزخرفة ونقوش معمارية ساحرة ما تزال شاهدا على تاريخهم المجيد بألوانها المتجددة دائما. وفي حوالي عام 500 قبل الميلاد، إتخذالأنباطمن البتراء عاصمة لمملكتهم. وسرعان ما أصبحت البتراء مركزاً لتجارة التوابل والحرير والبخور، فارضة سيطرتها على الطرق التي امتدت من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى تدمر في الصحراء السورية. واليوم، تعكس الآثار النبطية الموجودة في المدينة الوردية التنوع الثقافي والفني، الذي نتج عن كون البتراء مركزاً للتجارة الدولية في زمن قديم.
ولعل الإنجاز الأهم للحضارة النبطية، والذي يوازي في عظمته الخزنة الكبيرة المنحوتة في الصخر، هو النظام الهندسي للماء الذي جعل الحياة ممكنة في هذه المنطقة الجافة من الصحراء الأردنية. وقد تضمن ذلك النظام أنظمة لحفظ المياه واشتمل على السدود التي كانت تجمع مياه الأمطار في أشهر الشتاء. كما استخدم الأنباط نظاماً محكماً من القنوات والأنابيب الفخارية لتوزيع المياه في كافة أنحاء المدينة.
في حوالي عام 60 قبل الميلاد، قام الجنرال الروماني (بومباي) بغزو المملكة النبطية، إلا أنه سمح بقدر من الحكم الذاتي فيها. وفي عام 106 ميلادية، مد الامبراطور الروماني (تراجان) السيطرة الرومانية لتشمل نباطيا، التي أصبحت فيما بعد البترائية العربية وعاصمتها البتراء. استمرت البتراء في الازدهار تحت الحكم الروماني، كما أضيف للمدينة العديد من المسارح وأروقة الطرق الكلاسيكية ذات الطابع الروماني. كما تأثر الرومان بهندسة العمارة النبطية، حيث شيد للحاكم الروماني في البتراء (سكتوس فلورنتيوس) سنة 127 ميلادية، تابوت ذو طابع نبطي.
وصلت المسيحية إلى البتراء حوالي عام 300 ميلادية. وبالإمكان رؤية أنقاض كنيسة بيزنطية بنيت بين 450-500 ميلادية. كما تم تحويل عدد من المقابر والمعابد النبطية إلى كنائس.
لقد ساهم تغيير طرق التجارة، والزلزال المدمر في عام 511 ميلادية، في تغيير أوضاع الإزدهار الاقتصادي للبتراء. وبعد ذلك بفترة، تراجع التعداد السكاني في البتراء بشكل ملحوظ. وكان أخر التطوراتالكبيرة في البتراء هي تأسيس مركز حرس صليبي في القرن الثاني عشر. أما بعد العصر الصليبي، فقد أصبحت البتراء "مدينة مفقودة" ومعروفة فقط للعرب في المناطق المجاورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق